Saturday, January 7, 2012

رسالة كيمياء السعادة للغزالي


رسالة كيمياء السعادة للغزالي

تقديم الكتاب
أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ)
كلمة في (شروح جواهر القلوب)

مقدمة المؤلف

الفصل الأول: كيمياء الذهب

الفصل الثاني: في معرفة النفس

الفصل الثالث: الوقوف على الحقيقة

الفصل الرابع: حقيقة القلب

الفصل الخامس: معرفة عسكر القلب

الفصل السادس: المعرفة وأسبابها

الفصل السابع: الأخلاق

الفصل الثامن: القهارمة

الفصل التاسع: صفات البهائم

الفصل العاشر: عجائب عالم الغيب
الفصل الحادي عشر: روزنة القلب
الفصل الثاني عشر: الأنبياء وخصائصهم

الفصل الثالث عشر: في شرف القلب

الفصل الرابع عشر: معرفة درجات النبوة

الفصل الخامس عشر: العلم حجاب لهذا الطريق

الفصل السادس عشر: السعادة في معرفة الله

الفصل السابع عشر: في معرفة جوهر القلب

الفصل الثامن عشر: جوهر القلب وعظمته

الفصل التاسع عشر: صفات الحق من صفات النفس

الفصل العشرون: علم الحق وتنزيهه 

بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم الكتاب
1
أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ)

أ حياته:
هو العلامة، والحبر البحر، زين الدين ابو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، الذي غلب عليه لقب حجة الاسلام وذلك لذوده عن حياض العقيدة الاسلامية، ودفاعه عنها بفكره وقلمه ومناظرته وردوده على الفرق المتطرفة ولد بمدينة طوس من أعمال خراسان سنة 450 هـ الموافقة لـ 1058م، وتوفي والده وهو صغير، أقبل منذ صغره على طلب ودراسة العلم وتحصيله بارادة متواصلة، وعزيمة مثابرة، وسعي دائب، فتعمق في فنونه، وغاص في أبحره، وقد تلقى مبادئ العربية وأصولها أول الأمر في مسقط رأسه، كما تلقى الفقه فيها على أحمد بن محمد بن محمد الراذكاني، ثم انتقل إلى جرجان، ودرس فيها على يد أبي القاسم بن مسعدة الإسماعيلي الجرجاني، ثم ارتحل بعد ذلك إلى نيسابور ودرس الفقه والجدل والمنطق والفلسفة والكلام والأصول على أبي المعالي عبد الملك الجويني المشهور بإمام الحرمين، ولم يدرس بعد ذلك على أستاذ غيره، ثم ترك نيسابور بعد وفاة الإمام الجويني، ثم قصد العراق، فتوجه إلى بغداد، مركز الخلافة العباسية، ولمس ان شهرته قد سبقته إلى تلك الآفاق قبل قدومه اليها، فاتصل بالوزير نظام الملك السلجوقي، ففوض اليه مهمة التدريس بمدرسته المسماة (بالنظامية) ببغداد، وعينه أستاذا فيها سنة 484هـ، فأخذ ينشر العلم، ويدرس الطلبة، ويصنف الكتب، مدة أربعة سنوات، ثم فارق العراق، فرحل إلى الحجاز، وحج بيت الله الحرام، ورحل بعد ذلك إلى الشام، وسكن دمشق مدة، وأقام بالقدس، قريب من سنتين، وصنف هناك بعض مصنفاته، ويقال انه رحل إلى الديار المصرية ونزل بالإسكندرية ثم عاد بعد ذلك إلى مسقط رأسه طوس، حيث انقطع للخلوة والعبادة والتأليف، وبعد ذلك الزمه فخر الدين بن نظام الملك التدريس بمهمته في نيسابور، فمارس التدريس فيها مدة يسيرة عاد بعدها إلى طوس، ولزم داره وأكب على مراجعة العلوم والنظر في الاحاديث والدوام على العبادة والذكر، وأخيرا مات سنة 505 هـ ودفن بطوس رحمه الله.

ب منزلته العلمية:
بعد أن اطلعنا على نشأة الغزالي وشيوخه ورحلاته، لابد ان نتطرق إلى التنوية عن منزلته العلمية، حيث ان للغزالي منزلته المشهورة والبارزة بين العلماء، سواء في عصره الذي عاش فيه، او العصور التي تلته. وقد لازمته هذه الشهرة حتى وقتنا الحاضر الذي نحن نعيش فيه. وكذلك ستبقى نظرة الأجيال المقبلة إلى منزلته محاطة بالاجلال والإكبار والمتابعة. فقد خاض في فنون شتى من العلوم والمعارف المختلفة المواضيع، وقد أوتي موهبة ممتازة وفائقة من سعة الأفق، وقوة البيان، والتعمق في الاستنتاج، كما ألف كثيرا من الكتب والرسائل في علوم عديدة كذلك، كالفلسفة وعلم الكلام والفقه والتصوت والأخلاق والتربية.. الخ.
وقد تسابق أشهر العلماء، وكذلك الطلبة، في اقتنائها واستنساخها ودراستها وشرحها والتعليق عليها من جيل إلى جيل، وكانت كلما نبدأ حركة ما في مجال الترجمة في قطر من الأقطار، الا وكتب الغزالي، تأتي في مقدمة الكتب الموشحة في الترجمة، ولذلك نرى ان أغلب كتب الغزالي مترجمة إلى عدة لغات في العالم، ولا زالت تستقطب انظار رجال الفكر والعلم والمعرفة تأليفا وترجمة ودراسة.

جـ مؤلفاته
أما عن كتب ابو حامد الغزالي، فقد وضع رحمه الله كثيرا من الرسائل والكتب والتصانيف، اذ كان رحمه الله من المعدودين ممن اشتهر بغزارة التصنيف والتأليف، وفي مواضيع مختلفة كما أشرنا سابقا.
ومن أهم كتبه ورسائله المتداولة:
احياء علوم الدين، المنقذ من الضلال، تهافت الفلاسفة، مشكاة الأنوار، معيار العلم في المنطق، ميزان العمل، فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة، القسطاس المستقيم، قواعد العقائد في التوحيد، منهاج العارفين، كيمياء السعادة، الجام العوام عن علم الكلام، معراج السالكين، ورسائل وكتب ومصنفات أخرى غيرها.
وقد نسبت إلى الغزالي كتب كثيرة منها صحيحة كالذي مر ذكره آنفا، ومنها غير مقطوع في نسبتها اليه، بل يلفها الشك والظن والتحير في أمرها، ومنها لا يزال مخطوطا محفوظا في خزانات المكتبات، ومنها موضوعة، لا علاقة للامام أبي حامد الغزالي بها، وغير مسؤول عما فيها من آراء وأفكار ومحتويات، وتقع تبعتها على الوضاع والنساخ، وغيرها.. والله أعلم



2
كلمة في (شروح جواهر القلوب)
رسالة كيمياء السعادة للغزالي وهي
في شرح عجائب القلب

تعتبر هذه الرسالة من الرسائل المهمة للغزالي، اذ تنحصر مواضيعها في شرح أحوال النفس والقلب وحقيقة الروح والعلاقة بين المحسوسات والمعقولات، ومنزلة المشاهدة القلبية، المتولدة من المجاهدة والرياضة الروحية الحاصلة من قمع شهوات النفس ونبذ أوضارها، وذلك من أجل ان تتحقق سعادة الروح.
الرسالة مودعة في خزانة المخطوطات في مكتبة المتحف العراقي وأوصافها كما هي مدونة على ظهر بطاقة من بطاقات التعريف الراجعة إلى حقل التصوف والتي هي  كما يلي:
(رسالة في كيمياء السعادة، التصوف، محمد الغزالي الرقم 8956 / 9
38 ص
52 س
21 × 15 سم)
وقد وضعها الغزالي أصلا باللغة الفارسية، وقد أشار اليها دكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه (مؤلفات الغزالي) بالتفصيل فذكر نسخها المخطوطة بأرقامها وأماكنها، وأشار إلى الدراسات عنها، كما قال بان الغزالي ذكرها في كتابه المنقذ من الضلال (ص 155، طبعة دمشق 1934) ويظهر كما ذكر الأستاذ عبد الرحمن بدوي بان الرسالة طبعت فقط طبعتين حيث قال ما نصه: (طبع النص العربي ضمن مجموعة رسائل طبعها صبري الكردي، القاهرة سنة 1328هـ ، 1343 هـ).. ولم يصدر طبعة أخرى غيرهما للرسالة فيما بعد، كما لم تطبع الرسالة لوحدها بشكل مستقل بنفسها، وأخيرا لم يغفل الدكتور عبد الرحمن بدوي متابعة ترجمة الرسالة إلى اللغات الأخرى، حيث ذكر جملة من الترجمات لها، القديمة والحديثة، كالتركية، والأوردية، والهندستانية، والإنجليزية، والألمانية.
والنسخة التي بين يدينا ميزتها انها تنشر لوحدها لاول مرة، وهي محققة تحقيقا علميا، وقد لا حظنا فيها ركاكة الترجمة والأسلوب، وجهل الناسخ او المترجم بقواعد اللغة العربية، الا انه بمعاودة الدارس على دقة قراءة النصوص والحرص على ربط أفكارها، يستطيع على ضوئها الوصول إلى النتائج الواضحة المتوخاة بسهولة جدا.
الرسالة صغيرة الحجم، لكن الموضوعات الذي تناوله فيها الغزالي يكاد لم يسبقه في احد من الفلاسفة والمفكرين المسلمين من قبله، وهو موضوع البحث عن السعادة والتي لا تتم الا بالاستعداد التام لمعرفة حقيقة النفس التي بواسطتها يتم شرف معرفة الله، ويستخلص الغزالي إلى ان معرفة الحواس معرفة قاصرة، وان المعرفة الصحيحة الاقرار بخالق الوجود، والموجودات تحصل عن طريق المجاهدة القلبية، ثم يذكر ان العقل انما خلق لاجل القلب وخلق القلب والروح لاجل عبادة الله التي تتم بها السعادة.

فائدة:
كيمياء السعادة: هي (تهذيب النفس باجتناب الرذائل وتزكيتها عنه، واكتساب الفضائل وتحليتها بها) وتنقسم آلي:
1-    كيمياء العوام: وهي (استبدال المتاع الأخروي الباقي بالحطام الدنيوي الفاني).
2-     كيمياء الخواص: وهي (تخليص القلب عن الكون باستئثار المكون).

مقدمة المؤلف


بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي،
الحمد الله كثيرا، والشكر والمنة بعدد نجوم السماء، وقطر المطر، وورق الشجر، ورمل القفار  ودواب الأرض والسماء.
والحمد لله الذي صفته الوحدة والجلال، والكبرياء  والعظمة  ، والعلا، والمجد، والبهاء ، خاصيته ليس لمخلقو علم بكمال جلاله، وليس لأحد طريق الى  معرفة حقيقته، الا هو، بل الإقرار بالعجز عن معرفته منتهى  معرفة الصديقين، والوصول آلي  الاقرار بالتقصير في مجده وثنائه ، نهاية ثناء الملائكة  والأنبياء، وغاية عقل العقلاء  في مبادئ  اشراق جلاله حائرة ، ومنتهى  السالكين والمريدين في طلب القرب من حضرة جلاله دهشه، قطع الطمع في أصل ادراكه تعطيل دعوى  كمال معرفته من الجمال تشبيه وتمثيل، نصيب جميع الأعين من ملاحظة جمال ذاته تحيير، وثمرة جميع العقول من النظر لعجائب  صنعه تقصير، معرفة  ضرورية.. حاشا لله أن يكون لأحد ان يهجس في ضميره كنه عظمته، وجلال ذاته، وما هي وحاشا لله سبحانه ان لقلب ما لحظة واحدة من عجائب صفة معرفته، فيعلم وجوده، بل لا يعلم، حتى  يعلم جميع آثار قدرته، وحد أنواع عظمته، وجميع البدائع  والغرائب  من حكمته، وكل ما عليه جمال حضرته، والكل منه، والكل به، ولكن الكل هو، فليس شيء له وجود على  الحقيقة الا هو، وجميع الأشياء موقوفة على  وجوده..
والصلاة على  المصطفى  صلى   الله عليه وسلم سيد الأنبياء ، وممهد الطريق  وأمين أسرار الربوبية  ومختار الحضرة  الإلهية.
وعلى أصحابه..
وأهل بيته..
 فان كل واحد منهم، قدوة الأمة، ومظهر طريق الشريعة .
أما بعد:
فان الآدمي ما خلق للعب والهزل، بل أمره عظيم، وخطر كبير، فانه وان لم يكن أزليا، فهو أبدي، وان كان قالبه ترابيا سفليا، فحقيقة روحه رباني علوي، وجوهره وان كان في الابتداء  ممتزجا ومتعلقا بصيغة بهيمة وسبعية وشيطانية، فاذا وضع في بوطقة المجاهدة، صار طاهرا، من الاخلاط واللوث، صالحا لجواز  بحضرة الربوبية، ومرتقيا من أسف سافلين آلي أعلى  عليين، كله صعود وهبوط، وكذلك شغله وديدنه، وأسفل السافلين المختص به ان يكون نازلا، في مقام البهائم  والسباع، صار أسير الشهوة والغضب، وأعلى عليين المختص في الوصول آلي   درجات الملائكة ، والخلاص من يد الشهوة والغضب، فيتأسرهما جميعا، ويصيران ملكا له، فاذا وصل آلي  هذا الملك صلح لعبادة حضرة الإلهية ، وهذا الصلوح  حق الملائكة  وكما درجة الآدمي، واذا حصل اليسير من جمال حضرة الإلهية فلا يقدر ان يصبر عنه ساعة واحدة، ونصيبه من ذلك الجمال يصير جنته، باطنها جنة المعرفة، وظاهرها جنة الحس، وتلك الجنة التي [من]  نصيب العين والبطن والفرج نظيره جنة منحصرة، وان كان جوهر الآدمي في أول خلقته ناقصا وخسيسا، فلا سبيل ان يرتقي من درجة النقصان آلي   درجة  الكال الا بالمجاهدة والمعالجة .
وكما ان الكيمياء  التي توصل الصفر والنحاس في الصفاء والنظافة آلي  قوم الذهب الخالص، امر عسير، وكل أحد لا يعرفه!! فكذلك جوهر الكيمياء  الذي هو جوهر الأمي من الخسة البهيمة آلي  الصفاء ونفاسة الملائكة ، لا يوصل اليها، حتى  يوصل آلي  السعادة الأبدية الا عسير أيضا، ولا يعرفه كل أحد، والمقصود في وضع هذا الكتاب شرح أخلاط هذه الكيمياء التي هي بالحقيقة كيمياء السعادة الأبدية.
وهذا الكتاب سميناه بهذا المعنى  كيمياء السعادة، واسم الكيمياء أولى به ، فان التفاوت بين النحاس والذهب لا يزيد على  الرزانة ، وثمره هذه الكيمياء لا تزيد على نعيم الدنيا، وأنت تعلم ومدتها آلي متى يكون، ونعيمها.
فأما التفاوت بين صفات  البهايم، وصفات الملائكة  ، وذلك من أسفل سافلين آلي أعلى  عليين، وثمرة السعادة الأبدية، ليس لمدتها آخر، ولا لنعيمها  نهاية، ولا طريق للكدورة، أي صفائها ، فلا جرم كان اسم الكيمياء، بغير هذه عارية.

الفصل الأول

كيمياء الذهب


اعلم أن كيمياء الذهب لا يصل اليها كل عجول، وانما يكون في خزائن  الملوك والرؤساء  موجودة، وخزائن  الله سبحانه في السماء جواهر الملائكة  وفي الأرض قلوب الأنبياء عليهم السلام، وكل من طلب هذه الكيمياء من غير حضرة النبوة، غلط الطريق، وأخر أمره آلي  التدليس، وحاصل موسم حالة الظن والتخمين والتمني، ويظهر في القيامة إفلاسه، ويبين تدليسه، ويفتضح في ظنونه ويقال: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 22] ومن رحمة الله سبحانه الواسعة السابغة، انه أرسل آلي  الخلق مائة ألف نبي، وأربعة وعشرين ألف، ليعلموا الناس نسخة هذه الكيمياء، حتى  يعلموا كيف يجعل القلب في بوطقة المجاهدة!! وكيف يتعدون الأخلاق الذميمة، التي هي الخبث، والكدورة!! وكيف يكتسبون الأوصاف الحميدة!! ولهذا الأنموذج كان ارسال الأنبياء، ووضع المنة على الخلق، فقال عز من قائل: (يُسَبِحُ للهِ مَا فِي السّمَواتِ وَماَ في الأرْضِ اْلملِكِ الْقُدّوسِ الْعَزيزِ الحَكيمِ هُوَ الّذي بَعَثَ في الأميّينَ رَسُولاً مِنْهُم يَتْلوُا عَليَهِمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ) [الجمعة: 1، 2]، أي : ينظفهم من الأخلاق المذمومة التي هي صفة البهايم، (وَيُعَلِمُهُمُ الْكِتابَ وَالحِكْمَةَ) [الجمعة: 2]: أي يخلع عليهم ويلبسهم الصفات  الملائكة  الربانية.
ومقصود هذه الكيمياء، البعد من صفات النقص، والتنظيف منها، وتحصيل صفات الكمال.
وسر هذه الكيمياء ان تحول وجهك عن هذه الدنيا، وتواجه الله تبارك وتعالى كما رسول الله (ص)، فقيل له: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وَتَبَتّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل: 8]، أي: انقطع من كل شيء واعط كليتك له.
وأما تفصيل هذه فيطول، أما عنوانه، فمعرفة أربعة أشياء، وأركانه أربع معاملات، وفي كل ركن عشرة اصول.
أما العنوان الأول: فأن تعرف حقيقة نفسك..
الثاني: ان تعرف الله تعالى .
الثالث: ان تعرف حقيقة الدنيا.
الرابع: ان تعرف حقيقة الآخرة.
ومعرفة هذه الأربعة: حقيقة الإسلام.
وأما أركان معاملات الإسلام، فاثنان متعلقان بالظاهر، واثنان متعلقان بالباطن. فالمتعلقان بالظاهر، الأول منهما: قضاء حق الأمر ويسمى  هذا عبادات.
والركن الثاني: حفظ الأدب في الحركات والسكنات والمعاش وهو الذي يسمى  بالمعاملات.
وأما الاثنان المتعلقان بالباطن:
فأحدهما: تنظيف القلب من الأخلاق المذمومة مثل الغضب  والبخل  والحسد  والعجب  والكبرياء ، فان هذه الأخلاق تسمى  المهلكات وتسمى  عقاب طريق الدين.
والركن الثاني: تهذيب القلب بالأخلاق المرضية كالصبر والشكر والمجد والرضا والتوكل، وهذه تسمى   المنجيات.
ونحن في جملة هذا الكتاب نشرح هذه الأربعة عنواين والأربعين أصلا في العبادات، الأصل الأول: في اعتقاد أهل السنة..  والثاني: في طلب العلم.. آلي آخر ما ذكرنا في ترجمة (كتاب إحياء علوم الدين)  وهو الأربعون حديثا..
ثم قال: فهذه فهرست الأركان والأصول لكتاب كيمياء السعادة، وانما شرحناه هذه المعاني في هذا الكتاب لمن يعرف العجمية ، وحفظنا الكتاب من العبارات الغالية، والمعاني الدقيقة، ليدركها فهم العوام، فان كان [فيه]  تحقيق وتدقيق وزوائد ، فليطلب من الكتب الغريبة مثل كتاب (إحياء علوم الدين) و (جواهر القرآن)، والتصانيف الأخر المؤلفة   في هذا المعنى ، فان المقصود في هذا الكتاب، عوام الخلق، فانهم التمسوا من ان أوردها لهم بلفظ العجمية، ولا يمكن ان نتعدى  في الكلام حد فهمهم، والله تعالى يطهر بيتهم  في التماس ذلك، ويثبنا  في الإجابة من شوائب  الرياء، وكدورات التكليف، وتحصيل المنى، ويفتح طريق الصواب، وييسره، ويهب التوفيق والتيسير حتى  يجري اللسان  بالقلب، ما يقع الوفا [ء] به معاملة، وأما القول بلا عمل، ضائع ، والامر بلا سبب لا يقبل الا لقول الآخر، بعون الله سبحانه.
أول الكتاب:
بيان عنون الإسلام، وهو أربعة:
الأول: معرفة النفس.
اعلم ان مفتاح معرفة الله سبحانه وتعالى معرفة النفس، ولهذا قيل: من عرف نفسه، عرف ربه.
وقال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الأَفَاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت: 53].
وعلى الجملة لا شيء أقرب اليك منك، فإذا لم تعرف نفسك كيف تعرف سواك؟ ولقد غلط من ظن انه قد عرفها، إذ لا يصلح من عرفها ان يكون غير عارف بالحق تعالى، وانما يعرف من ظاهرك أعضاءك  فقط، وذلك انك اذا جعت أكلت، وإذا غضبت انتقمت، وإذا انعظت   نكحت، وأنت في ذلك والبهائم  في حد سوا [ء]..
فاذا ينبغي ان تعرف كنهها، ومن أين منشأها!! والى اين مصيرها!! ولأي معنى  من هذا القالب!! ولماذا  خلقت!! وبم سعادتها!! وفيم شقاوتها!! وفي ماذا   تشقى !! وانها متسمة بصفات مجتمعة من صفات البهائم  والسباع والشياطين والملائكة  عليهم السلام، وما أنت من هذه الجملة، وانها فيك!! فاذا علمت ذلك أمكنك طلب سعادتك، اذ سعادة  كل أحد، وغذاؤه ، غير ما  الآخر عليه، فللبائهم   الأكل والنوم والكسب، فان كنت منهم فاحرص على ذلك، لتقسيم أحوال بطنك وخرجك، وغذا [ء] السباع وسعادتها، الضرب والقتل، والانتقام عند الغضب وللشياطين التضريب بالشر والحيل والمكر، فاي كنت منهم فأشتغل بما فيه سعادتهم.
وأما الملائكة  فسعادتهم وغذاؤهم مشاهدة الحضرة الإلهية، وليس للصفات الشيطانية والسبعية اليهم السبيل، فان كان جوهرك في الاصل ملكيا فاجتهد لتعلم الحضرة الربانية وتمهد لنفسك الطريق  لتسلكه  لتصل الى  مشاهدة ذلك الجمال، وتخلص نفسك  من التوريط في ميدان الشهوة والغضب، وتعلم لأي معنى  خلقت فيك صفات البهائم  والسباع، لأنها تستأسرك وتستخدمك ليلاً ونهاراً، أم كيف تستأسرها وتسخرها في سفرك الذي بين يديك، تركب أحدهما وتجعل على  الآخر سلاحك لتستعين بذلك مدة مقامك في طلبك حتى  تقتني بذر سعادتك بمعاونتهم، فحينئذ تبلغ غاية المنى   وتصل الى  نهاية السعادة، وتلك الغاية في عبادة الخواص ، الحضرة الإلهية، وفي عبارة العوام، الجنة.
واعلم انه لا يتصور لك الوقوف على  هذه المعاني، وأنت لا تعرف شيئا من نفسك، وكل من لا يعرف ذلك، فهو عن حقائق  الدين ليس له نصيب من حقيقته الا القشور.

الفصل الثاني

في معرفة النفس


فاذا أردت ان تعرف نفسك، فاعلم انك مخلوق من شيئين: أحدهما: البدن الظاهر الممكن رؤيته بالبصر.. والآخر: معنى  باطن تسميته النفس والروح والقلب، يدرك بالبصيرة لا بالبصر، فحقيقته ذلك وما عداه تبعه وخدمه، ونحن نسميه القلب، فمتى ذكرنا القلب فالمقصود هو الذي يسمى  نفسا مرة وروحاً مرة، لا اللحم الموضوع في الصدر في الجانب الأيسر منه، فانه لا قدر له، اذ هو موجود للبهائم  والموتى ، ويمكن  ان يدرك بالبصر، وكل ما يمكن ادراكه بالبصر فهو من هذا العالم المسمى ، عالم الشهادة، وحقيقة القلب ليس من هذا العالم في شيء، بل غريب، ووصوله عابر سبيل، واللحم الظاهر  مركبه وآلته، وجميع البدن عسكره، ومعرفة الله ومشاهدة حضرته صفته، عليه التكليف، والسعادة، والشقاوة، والأمر فيهم راجع اليه، وهو الأصل، والبدن في الجميع تابع له، ومعرفة حقيقة وصفاته مفتاح معرفة الله سبحانه. فاجتهد ان تعرف نفسك، فانه جوهر عزيز من جنس جور الملائكة ،  ومعدن أصل الحضرة الالهية مجيئه  من هناك، ومعاده آلي   ماثم ، وانما تغرب هاهنا  للتجارة والحراثة، فاعلم معنى   الحراثة والتجارة ان شاء الله تعالى.

الفصل الثالث

الوقوف على الحقيقة


أعلم انه لا يمكن الوقوف على  حقيقة، [ما] ،  حتى  تعلم وجوده، وتعرف حقيقته، وانه ماذا!! وتعرف عسكره من هو!! ثم تعرف علاقته ما هي!! ثم تعرف صفته، وكيف تحصل له معرفة الله سبحانه!! وكيف يصل الى  هذه السعادة، وقد أشرنا آلي   كل واحد مما ذكرنا، وذكرنا طرقا منه، أما وجوده فظاهر، اذ الآدمي لا يشك في نفسه، وليس هو البدن، اذ ذلك للميت، ولا روح له، ومرادنا بهذا: القلب حقيقته الروح الذي بفقده يكون هذا القلب جيفة، فلو أن رجلا يغمض عينه ونسي قالبه، والسماء، والأرض، وكل ما يمكن النظر اليه، فيعرف وجود نفسه بالضرورة، ويكون له منها خبر، ولن لم يكن له خبر من بدنه، ولا السماء، والارض وغير ذلك.

الفصل الرابع

حقيقة القلب


أما حقيقة القلب، وماهيته، واي شيء صفته!! فلم يرخص الشرع في ذكره، ولم يرخص رسول الله (ص) في ذكره أيضا..
 وقد قال الله سبحانه: (وَيَسْئَلونَكَ عَنْ الرّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء: 85]، فلم يؤذن  له  في اكثر من هذا، وهو ان يقول ان الروح من الأمور الإلهية، فانه من عالم الأمر، ولله الخلق والأمر، وكل ما للمقدار والكمية اليه طريق، فيقال هو من عالم الخلق، والخلق في أصل اللغة بمعنى  التقدير، وقلب الآدمي ليس له مقدار، ولا كمية، ولهذا لا يقبل الانقسام، اذ لو جاز ان يتجزأ ، او ينقسم، لكان بعضه، جاهلا بشيء، والآخر عالما به، ومحال أن يكون عالما جاهلا بشيء  واحد في حال واحد.
واعلم انه وان كان غير قابل للقسم ،  فهو مخلوق، إذ، الإبداع أيضا، يطلق عليه اسم الخلق لما يطلق  على التقدير بالخلق.. فاذا بهذا المعنى ، هو من جملة عالم الخلق، وبالمعنى ، الآخر، من عالم [التقدير] ، إذ هو عبارة عن أشياء لا طريق للمسامحة اليها للمقدار..
وقد ذهب قوم آلي ان الروح قديم، ومن ظن ان الروح قديم فقد غلط..
وذهب آخرون آلي  انه عرض، وقد غلطوا ايضا، فان العرض لا يقوم بنفسه، بل هو تبع، والروح أصل الآدمي وما عداه تبع، فكيف يكون عرضا!!
وقد غلط أيضا، من ذهب آلي  أنه جسم يقبل القسمة، والروح بخلافه، ولعمري هاهنا شيء آخر يقال انه الروح، وهو قابل القسمة لكنه أرواح البهائم ،  وأما الروح الذي سميناه قلبا، فهو الذي تحل فيه معرفة الله تعالى، وليس للبهائم  فليس بجسم ولا عرض، بل هو جوهر من جنس جوهر الملائكة  يعسر الوقوف على   حقيقته، ومعرفة كنهه، ولم يرخص الشرع في شرحه، وليست  آلي  معرفته حاجة في ابتداء سلوك الدين، اذ، أول طريق الدين المجاهدة ، فمن جاهد بالشرط، فمعرفة هذا تحصل له، وان لم يكن قد سمعه من غيره، وهذه المعرفة من جملة الهداية التي قال الحق تعالى: (وَالَّذينَ جَاهَدوُاْ فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت: 69] لا يجوز ان نذكر معه حقيقة الروح قبل المجاهدة، فلا بد من معرفة، عسكر القلب، فان من لم يعرف عسكره، لا يقدر على  المجاهدة.
واعلم أن البدن مملكة القلب، وفي هذه المملكة عساكر مختلفة، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إلا هوَ) [المدثر : 31]، وانما خلق القلب لأجل الآخرة، وشغله طلب السعادة، وسعادته معرفة الله تعالى، ومعرفة الله تعالى تحصل بمعرفة عجائب   العالم وهذه تحصل بطريق الحواس وقوام الحواس بالقلب، فالمعرفة صيده، والحواس شبكته، والجسد مركبه وجماله، فلهذا السبب دعت الحاجة الى  الجسد، والجسد مركب من الماء والتراب والحرارة والرطوبة، ولأجل هذا السبب هو ضعيف، وفي خطر الهلاك من باطنه، بسبب الجوع والعطش، ومن ظاهره، بسبب الماء والنار، وبسبب قصد الأعداء والسباع وغير ذلك.
فلأجل هذا الجوع والعطش احتاج الى  الشراب، وبسببه احتاج آلي   عسكرين، احدهما ظاهر كاليد والرجل والفم والأسنان والمعدة، والآخر باطن مثل الشهوة للطعام والشراب، واحتاج ايضا آلي   عسكرين لدفع الأعداء الخارجة ، أحدهما ظاهر كاليد والرجل والسلاح، والآخر باطن مثل الغضب، والرضا.
ولما لم يكن التوصل آلي  تحصيل الغذاء، ودفع الأعداء، الا بإدراكات أنعم الله تعالى بها للحاجة اليها، فبعضها ظاهر وهي الحواس الخمس، مثل العين والأذن والذوق واللمس، وبعضها باطن وهي أيضا خمس ومنزلها الدماغ مثل قوة الخيال وقوة الفكر وقوة الحفظ وقوة الذكر وقوة التوهم ،  ولكل واحد من هذه القوى شغل يختص به، فاذا اختل أحدهما، اختل الشغل المنوط به في أمر الدين والدنيا.
وجملة هذا  العسكرين، الظاهر، والباطن، كلهم ، بأمر القلب، فانه أمير الكل وملكهم، فإذا أمر اللسان بالكلام نطق. واذا أمر اليد بالأخذ ، اخذت وإذا أمر الرجل بالمشي مشت.. واذا أمر العين بالنظر نظرت.. واذا أمر قوة الفكر [بالتفكير]  تفكرت، وكل يطيعه، ويطيع أمره، ويمتثل رسمه  ليحفظوا، الجسد، حتى  يأخذ زاده، ويحصل صيده، وتتم تجارة أخرته، ويزرع حب سعادته..
وطاعة هذا العسكر للقلب تشبه طاعة الملائكة  لله تبارك وتعالى ،  فانهم لا يقدرون على  مخالفته في أمر، بل بالطبع  والطوع يمتثلون الأوامر.

الفصل الخامس

معرفة عسكر القلب


اعلم ان معرفة تفاصيل عسكر القلب طويلة، وتعلم مقصودك بمثال: اعلم ان مثل البدن مثل بلد، واليد والرجل والأعضا [ء] مثال أهله، والشهوة كعامل  الخراج، والغضب مثل الشحنة، وهو صاحب المظالم، والقلب ملكها، والعقل وزيره، وللملك حاجة آلي هؤلاء  كلهم بسبب أحوال الملك، لكن الشهوة التي هي مثل عامل الخراج كذاب فضولي مخلط مخالف للوزير الذي هو العقل بكل ما بقوله، وتمنيه أبدا ان تنقص أموال المملكة بحجة الخراج، وهو الغضب الذي هو الشحنة، شرير، وهو أبدا محب القتل والشر، وقلما يشاور ملك البلد ووزيره، والعامل الكذاب يعزل، ولا يمكن لكل ما يقوله مخالفة الوزير، ولا يسمع منه، بل يسلط عليه الشحنة ليمنعه من الفضول، والشحنة أبدا يكون مقهورا، مقصورا، لئلا  يخرج من حده، فاذا فعل هذا انتظمت أمور المملكة، وكذلك الملك الذي هو القلب، اذا فعل باشارة الوزير الذي هو العقل، استمرت أمور المملكة وطريق السعادة، ولا ينقطع عليه طريق الوصول آلي  الحضرة الإلهية، واذا جعل العقل أسير الغضب والشهوة، خربت المملكة، ويصير الملك هالكاً ردي البحث.

 

الفصل السادس

المعرفة وأسبابها


قد علمت بينة هذه الجملة التي أسلفناها امام الشهوة والغضب، انما خلقنا لأجل الطعام والشراب، وحفظ البدن، فإذا، هاذان، الاثنان، خادمان للبدن في الطعام والشرب اللذين هما علفه، وخلق البدن ليحمل الحواس، وخلقت الحواس خدما للعقل، ليكونوا شبكة له، ليعلم عجائب  صنع الله عز وجل بها.
فاذا الحواس خدم العقل، والعقل انما خلق لأجل القلب، والقلب خلق لأجل النظر الى  جمال حضرة الربوبية، فاذا كان مشغولا بهذا، فهو اذا، العبد والخادم للحضرة الإلهية، وهذا معنى  قوله عزوجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإنسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، وانما خلقت أعضاء هذا العسكر والمملكة، و سلم اليه مركب البدن ليسافر من عالم التراب آلي أعلى ، فاذا أراد ان يقضي حق هذه النعمة، ويأتي بشرط العبودية في موضعها، ينبغي ان يجلس الملك في صدر المملكة ويتخذ من حضرة  الإلهية قبلة ومقصدا، ومن الآخرة وطنا وقراراً،  ومن البدن مركبا، ومن الدنيا منزلا، ومن اليد والرجل والأعضا [ء] خدما ويوكل كل واحد منهم بعالم بعد  وآخر ليجمعوا له جميع أخبار  ذلك العمل، ويتخذ من قوة الخيال التي  في أول الدماغ صاحب بريد ليجمع عنده الجواسيس كلهم من قوة الحفظ التي في آخر الدماغ ويتخذ خريطة يجعل فيها جريدة الأخبار، وهي البطاقة التي أحدها من يد صاحب البريد، يعرض على  الوزير ليدبر الأمر في المملكة بوفق ما بلغه من الأخبار ويدبر سفر الملك، فاذا رأى واحدا من العسكر، مثل الشهوة والغضب وغيرهما قد بغي على  الملك وأخرج يده من الطاعة، وأراد قطع الطريق عليه دبر في جهاده. واشتغل به ولا يقصد قتله، فان المملكة لا تستقيم الا به، فينبغي ان يدبر ليذعنوا  له الى  حد الطاعة ليعينوه على  حد السفر الذي بين يديه، فاذا فعل ذلك كان سعيدا وقضي حق النعمة، ويجد ما يستحق من الخلعة في وقتها، وان عجل بخلاف ذلك وافق قطاع الطريق والأعدا [ء] البغاة، وكفر النعمة، وكان شقيا، فاستحق النكال والعقوبة.

الفصل السابع

الأخلاق


اعلم ان لقلب الآدمي مع كل واحد من العساكر التي في باطنه علاقة يظهر له من كل واحد خلف  وصفة، وبعض الأخلاق الردية الردية المهلكة له، وبعضها أحسن ، توصله آلي   السعادة.
وجملة تلك الأخلاق وان كانت جملة كثيرة كمالها يصير آلي   أربعة أقسام من الأخلاق:
أخلاق البهائم .
وأخلاق السباع.
وأخلاق الشياطين.
وأخلاق الملائكة .
فسبب وضع الشهوة يفعل أفعال البهائم  كإظهار البشرة عند الأكل، وبسبب وضع الغضب فيه يفعل أفعال الكلب والذئب  والأسد، مثل الضرب والقتل والوقوع في الخلق باليد واللسان، وبسبب ما فيه من المكر والحيلة والتلبيس والتخليط وإرادة الفتن بين الخلق يفعل فعل الشياطين، وبسبب ما فيه من العل يفعل أفعال الملائكة ، مثل: محبة العلم، والصلاح، والحمية من الأفعال الخسيسة، ويفرح بمعرفة الأشيا [ء] الجميلة، ويرى  العيب والجهل وعدم المعرفة، وعلى  الحقيقة ان في جلسة الآدمي أربعة أشيا [ء]، كلب، وخنزير، وجني، وملك.. فان الكلب لا يذم من أجل صورته بل لأجل الصفة التي فيه، وبها يقع الشره والخوض في الأشيا [ء] القبيحة القذرة ، وحقيقة الكلبية، وكذلك حقيقة الشيطان والملك..
وهذا ما قلناه من هذا المعنى ،فأما الأمي فمأمور بكشف تلبيس الشيطان ومكره بأنواع العقل التي هي من آثار أنوار الملائكة  حتى  يظهر عواره، ولا تظهر  فيه آثار الفتنة وعيوبه، كما رسول الله (ص) قال: (لكل آدمي شيطان ولي أيضا شيطان ولكن الله نصرني عليه حتى صار تحت قهري لا يقدر ان يأمرني بشيء من الشرور) فقد أمر بأدب خنزيره وشهوته، وكلب غضبه حتى يجعلهما تحت يد العقل كيلا يقوما ولا يقعدا الا بإذنه، فاذا فعل ذلك حصل من هذا أخلاق حسنة وصفات جميلة هي لب سعادته، فان فعل بخلاف ذلك وشد على  وسطه منطقة خدمتها حتى تظهر فيه أخلاق هي لب شقاوته، فان كشف له حالته في اليقظة او في النوم يرى  نفسه مشدود الوسط في الخدمة بين يدي خنزير او كلب او جني اسير، فيعلم ان حاله أفحش وأقبح، ولو أنصف اكثر الخلق وحاسبوا أنفسهم رأوا منطقة الخدمة في أوساطهم مشدودة لمرادهم، ولهوا، أنفسهم ليلا ونهارا وحالهم على  الحقيقة، هذا الذي ذكرناه وان كانوا في الصور يشبهون الآدميين، فغدا في القيامة ، انما تظهر المعاني، وتكون  الصور على  قدر المعاني، فالذي كانت الشهوة غالبة عليه يرى  يوم القيامة  خنزيرا، والذي كان الغضب غالبا عليه يرى يوم القيامة  في صورة سبع، لأجل هذا اذا رأى  في النون سبعا، فتعبيره: انه رجل ظالم. وان رأى  خنزيرا، فتعبيره انه رجل قذر، لان النوم أنموذج الموت، وهذا القدر من النوم يعبر له من هذا العالم اذا كانت الصورة تبعا للمعنى حتى ان صورة كل أحد على قدر باطنه. وهذا سر عظيم لا يحتمله شرح الكتاب.

الفصل الثامن

القهارمة


فاذا علمت ان في باطن هؤلاء الأربعة: القهارمة ، فكن موافقا بحركاتك وسكناتك، حتى  تتبين في طاعة من أنت منهم.
واعلم بالحقيقة انه تحصل لقلبك صفة من كل حرفة تبقى معك وتأتي في صحبتك الى  ذلك العالم، وتلك الصفات يقال لها الأخلاق، وانما تنفتح  أنواره من هؤلاء القهارمة، فانك [إن]  أطلعت الشهوة الخنزيرية ظهرت فيك صفة القذارة والوقاحة والحرص والحسد والشماتة وغير ذلك، وان قهرته وأدبته وجعلته تحت يدك، ظهرت  فيك صفة القناعة، وحفظ النفس، والحياء، والظرف، والزهادة، وقلة الطمع، وقصر اليد، وان اطعت الغضب الكلبي ظهرت  قلة المبالاة والهم والتنقيص للخلق وبغضهم والكبرياء والافتخار، والتحسر على  ما فات من بلوغ النهاية من الدنيا، والوقيعة في الخلق، وقلة الاكتراث بهم، والالتفات اليهم، وان أدبت هذا الكلب ظهر فيك الصبر والعفو والشجاعة والثبات والسكون والشهامة وغير ذلك.
وان أطعت الشيطان الذي عمله تحريض هذا الكلب والخنزير على   الأفعال القبيحة، وتشجيعهم وتعليمهم المكر والحيلة ظهرت  فيك الخيانة والتخليط وسوء الطوية، والنفاق والتلبيس، وان قهرته ولم تغتر بتلبيسه وصرفت عسكر القلب ظهر فيك الذكاء والمعرفة والعلم والحكمة، وطلب الصلاح للخلق، والعصمة، والرئاسة . 
وهذه الاخلاق الحسنة الباقية معك، التي هي الباقيات، ويكون بدء سعادتك، التي تظهر من هذه الأخلاق، يقال لها الطاعة، وحركات الآدمي وسكناته لا تخرج من هذين الوصفين، والقلب مثل المضيئة  النيرة، والأخلاق القبيحة مثل الدخان والظلمة، اذا وصلت اليها، صيريها ظلمة ، فلا يرى  الحضرة الإلهية وتكون حجاباً.
وهذه الأخلاق الحسنة مثل النور، اذا وصلت آلي  القلب رفعت  ظلمة المعصية، ولهذا قال رسول الله (ص): (اتبع السيئة الحسنة تمحها).
وفي القيامة انما يأتي القلب ومظلما، ولا ينجو الا من أتى الله بقلب سليم، وقلب ابن آدم في ابتداء خلقته، مثل الحديد، تتأتى  منه مرآة منيرة، يظهر فيها كل ما في العالم، فاذا أريدت على  هذه الصفة حفظت، والا غشيها الصدأ وأكلها الزنجار، حتى تصير بصفة لا تأتي  منها مرآة على  ما قال الله تعالى: (كَلاَ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].

الفصل التاسع

صفات البهائم


ولا شك انك تقول اذا كانت  صفات البهائم  والسباع والشياطين والملائكة ‍‍‍. فمن اين علمتم صفة الملائكة ؟ وباي شيء يعلم انه انما خلق لتحصيل الأخلاق الملكية دون باقي الصفات.
فاعلم انما تعلم ذلك اذا علمت ان الآدمي أشرف وأجمل من البهائم  والسباع وغير ذلك، وكل شيء أعطي كمالا، فذلك نهاية درجته، ولأجله خلق خلق، مثال هذا، ان الفرس أشرف من الحمار، فان الحمار لأجل نقل الأحمال خلق، والفرس خلق لأجل الجري والجهاد والقتال، حتى  يمر تحت الفارس حيث ما أراد وأعطي ايضا قوة الحمل مثل الحمار، وأعطي الكمال والزيادة من ما لم يعطي الحمار، فان عجز عن كماله اتخذ منه حمولة، ورد الى  درجة الحمار، وهذا هلاكه ونقصانه، ولذلك ظن قوم ان الآدمي انما خلق للأكل والنوم والجماع والتمتع، فأنفذوا زمانهم في ذلك، وظن قوم انما خلق لأجل الغضب والغلبة والاستيلاء وقهر الغير مثل الترك والأكراد، وهذان الرأيان خطأ فان الأكل والجماع يكونان بالشهوة، وهي مركبة في البهائم ، وأكل الحمار أكثر من أكل الآدمي، وسفاد العصفور أكثر مما يكون الآدمي أشرف منهم ، وما للغلبة والاستيلاء فيكونان بالغضب، وقد أعطيت السباع هذه القوة القوة فقد أعطي الآدمي ما للسباع والبهائم  وزيادة، ولتلك الزيادة كمال وهو العقل الذي يعرف به الله تعالى وجميل صنعه، وتخليص نفسه من يد الغضب والشهوة، وهذه صفة الملائكة  وبهذه الصفة استولى  على  البهائم  والسباع، وكلهم مسخرون له، وكذلك كل ما جاء على  وجه الارض، على  ما قال الله تعالى: (وَسَخّرَ لَكُم مّا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية: الآية 13].
فاذا حقيقته، ما منه، كمال وشرفه، وباقي الصفات فانها غريبة فيه وعارية، وانما أرسلت اليه عدده وعدته، ولهذا اذا مات لم يبق  معه الغضب ولا الشهوة، فانما الجوهر الصافي انه صفة الحق، وهو صورة الملائكة  لا جرم يكون رفيقا لهم، وهذا رفيق للملأ الأعلى ، وهم أبدا في حضرة الإلهية: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر) [القمر: 55]، وأما المظلم المنكوس، فانما تعلق به الصدأ من ظلمة المعصية، وكان منكوسا بما اعتداه  به ن الأخلاق الشهوانية  والغضبية، وقد  ترك كل شهوة له في هذا العالم، عالم القدس، فوجه قلبه الى  وجه الدنيا، فانها محل شوته، ومراده، وهذا العالم تحت عالم الآخرة، فاذا يكون رأسه منكوسا، هذا معنى قوله تعالى : (وَلَوْ تَرَى إذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ) [السجدة: 12] [الآية].
ومن كانت هذه صفته، فهو من الشياطين، في سجين، ولا يعلم أحد ما معنى  سجين، ولأجل هذا قال الله تعالى: (وَمَا أَدْراكَ مَا سِجّينٌ) [المطففين: 8] [الآية].

الفصل العاشر

عجائب عالم الغيب


اعلم ان عجائب  عالم الغيب ليست  له نهاية، وأعجب من ذلك جملة عجائب  القلب وشرفه، وأكثر الخلق غافلون عن ذلك.
وشرفه  من وجهين:
أحدهما: من وجه العلم، والآخر: من وجه القدرة، أما شرفه من وجه العلم فعلى  طبقتين: أحدهما: ما يعلمه جميع الخلق، والآخر: خفي، ولا يعرفه كل أحد، وهو عزيز. اما الظاهر: [فهو]  قوة معرفة جملة الصناعات حتى  يعمل بها جملتها، ويقرأ ما في الكتب، ويتعلمها، مثل الهندسة والحساب والطب والنجوم وعلم الشريعة، مع انه واحد في نفسه لا يقبل القسمة، اذ يسع فيه جميع العلوم، بل كل العالم فيه ذره في بحر، في لحظة واحدة يذهب في فكره نفسه وحركتها من  الثرى  آلي العلا، ومن المشرق آلي المغرب مع علمه مساحة السماوات  ومقدار النجوم  حتى  انه يعلم مساحة كم ذلك من ذراع ، ويخرج المسك من البحر بالحيلة، ويحيط الطير من الهوا [ء] آلي الأرض، ويسخر الحيوانات القوية بنفسه مثل الفيل والأسد والفرس، وكل ما في العالم من عجائب  العلوم عنده..
وجملة هذه العلوم عنده انما تحصل من طريق هذه الحواس الخمس، وبهذا السبب كانت ظاهرة، ولهذا خلق لها طاعة الطريق، وأعجب من هذا ان في باطن القلب روزنة مفتوحة تحت ملكوت السماوات كما ان في خارج القلب خمسة دروب مفتوحة آلي   عالم المحسوسات المسمى  بالعالم الجسماني، اما عالم الملكوت فيسمى  العالم الروحاني وأكثر الخلق يلقبون العالم الجسماني بالمحسوس وهذا مختصر بالأصل ، والعلم الحاصل من جهة الحواس علوم مختصرة أيضا، والدليل على   ان في ابطان القلب روزنة آلي   العلوم الأخرى شيئان، أحدهما: الرؤيا فان النائم  اذا انسدت عليه الحواس انفتح له الباب الباطن، فيظهر له الغيب من عالم الملكوت، ومن اللوح المحفوظ حتى يعلم ما يكون في المستقبل، ويراه اما ظاهرا مثل ما يريد ان يكون، واما بمثال يحتاج فيه آلي التفسير، ومن حيث الظاهر يظن الناس ان المرء أولى  بالمعرفة في حال اليقظة، ويرون انهم يدركون النظر في حال اليقظة، ويؤدونه في حال المنام لا من طريق الحواس [وإن]  شرح حقيقة النوم لا يمكننا شرحه في هذا الكتاب.
وأما القدر الذي ينبغي ان تعلم ان القلب مثل المرآة واللوح المحفوظ مثل مرآة أخرى  فيها صورة جميع الموجودات، وكما ان الصورة التي في احدى المرآتين تقع في الأخرى  في المقابلة لها، فكذلك ما في اللوح المحفوظ يظهر في القلب اذا صفي وفرغ من المحسوسات واخذ منه مناسبات، و ما دام مشغولا بالمحسوسات كان محجوبا عن مناسبات عالم الملكوت، وفي حالة النوم يفرغ من المحسوسات فلا جرم يظهر فيه ما في جوهره، من مطالعة الملكوت، ولكن اذا وقعت الحواس لسبب النوم فالخيال باق في موضعه، فلأجل هذا يكون ما يراه في كسوة مثل خيال، فلا يكون تصريحا مكشوفا ولا يخرج من غطاء الخيال من الأغلب الا عند الموت، فحينئذ لا يبقى خيال ولا حواس، فتكشف الأغطية ويرى   الأمور بلا خيال، ويقال له( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 22] ويقولون: (رَبّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إنّا مُوقِنُونَ) [السجدة: 12] دليل آخر من  أخذ الأولية فراسة وخاطر مستقيم  على سبيل الإلهام واصل آلي القلب من غير طريق الحواس، بل ظهر منه، وهو لا يعلم من أين جاءه ، وبهذا القدر يعلم ان العلوم كلها لا تكون من طريق المحسوسات، فتعلم بهذا ان القلب ليس من هذا العالم بل من عالم الملكوت، وجعلت الحواس له من أجل هذه العالم، فلا جرم لذلك كانت حجابه من مطالعة ذلك العالم فما لم يفرغ من هذا العالم لا يجد الطريق الى  ذلك العالم.

الفصل الحادي عشر
روزنة القلب

 

لا تظن ان روزنة القلب لا تفتح للملكوت بل لو كان رجلا راضى نفسه وخلص قلبه، من يد الغضب والشهوة والأخلاق الردية، ويخرج من قلبه مرارة لهذا العالم ، ويجلس في موضع خال، ويغمض عينيه ويعطل حواسه، ويعطي لقلبه المناسبة بعالم الملكوت، يقول على  الدوام: الله.. الله.. بالقلب لا باللسان الى  ان يصير من نفسه بلا خبر، ومن جميع العالم لفظا بلا خبر من شيء الا من الله تعالى، فاذا صار كذلك، وان كان مستيقظا انفتحت تلك الروزنة، وما يراه الخلق في النوم يراه في اليقظة، وأرواح الملائكة  تظهر له في صورة حسنة، ويرى  الأنبياء كلهم وياخذ منهم الفوائد  ويجعل له منها المدد، ويرى  ملكوت السماوات والأرض، ومن يفتح له هذا الباب يرى  الأمور العظيمة الهائلة  التي لا تدخل تحت الحس والخيال وهو الذي قال رسول الله (ص): (زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وهو الذي قال الحق سبحانه: وَكَذلكَ نُرِي إبْرَاهيمَ مَلَكُوتَ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ) [الأنعام: 75] كله كان من هذه الحال، بل جميع علوم الأنبيا [ء] كانت من هذه الطريقة، لا من طريق الحواس والتعليم، وبداية هذه كلها المجاهدة) .

كما قال سبحانه: (وَأذْكُرْ أسْمَ رَبّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل: 8] يعني تنظف من كل شيء، وانقطع عن كل شيء، واعط كليتك له ولا تشغل بتدبير الدنيا فان الله سبحانه يكفيك مؤنتها، رب المشرق والمغرب، لا إله الا هو، فاتخذه وكيلاً. أي فافرغ اليه ولا تختلط بالخلق ولا تشغلن بهم (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل: 10]، وهذا كله تعليم المجاهدة والرياضة كيما يصير به القلب صافيا من رذيلة الخلق والشهوة وشغل المحسوسات، وهذا طريق الصوفية، وهو طريق النبوة، أما ما يحصل لهم بطريق التعليم بذات العلماء، وهذا أكثر أيضا، ولكن مختصر بالإضافة الى  طريق النبوة، وعلم الأنبياء والأولياء الحاصل لهم من حضرة الحق سبحانه بلا واسطة تعليم الآدميين عن قلوبهم، وتصحيح هذا الطريق معلوم كله بالتجربة، لخلق كثير، وبالبرهان العقلي، أيضا، وان لم تكن قد حصلت لك هذه الحالة بالذوق ولا بالعلم ولا بالبرهان العقلي، فلا أقل من أن تكون مؤمنا مصدقا لئلا  تحرم  أحدى  هذه الثلاث درجات، ولا تصير كافراً، وهذا من عجائب  عالم الغيب وبه علم شرحه.


الفصل الثاني عشر
الأنبياء وخصائصهم

واعلم ان هؤلاء الأنبياء عليهم السلام غير مخصوصين، وان جواهر الآدميين تصلح كلها في اصل الفطرة، كما ان يصلح ان يتخذ من كل حديد من أصل فطرته مرآة تحكي صورة العالم لكن اذا غاض في جوهرها الصدأ والزنجار فسده وأهلكه، كذلك القلب اذا غلب عليه حرص الدنيا والشهوات والمعاصي وتمكن فيه لا يصلح لتلك الخاصية وتبطل منه تلك الفطرة، (وكل مولود يولد على  الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)، ولهذا العموم والخاصية والصلاحية أخبر قائل  الحق تعالى عنها اذ قال: (ألسْتُ بِرَبّكُم قَالوا بَلى) [الأعراف : 172] هكذا لو ان رجلا عاقلا قيل له الانسان أكثر من الواحد لقال بلى هذا الكلام صحيح، ولو أن عاقلا لم يسمع بإذنه ولم يكن قد سمع ولم يقل بلسانه لكان باطنه يصدق ذلك فكذلك فطرة الآدميين مصوغة على   فطرة الله تعالى، وكما قال غز من قائل : (وَلَئِن  سَأَلْتَهُم مّنْ خَلَقَ السّمَاواتِ وَالأَرضَ لَيَقًولّنَ اللهُ) [لقمان: 25] وقال تعالى: (فِطرَت َ اللهِ الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [الروم: 30]، وقد عرف [بـ]  البرهان العقلي والتجربة ان الأنبياء كلهم غير مخصوصين وأنهم آدميون على ما قال (ص): (إنما أنا بشر مثلكم) لكن اذا فتح هذا الطريق لواحد، ظهر له صلاح الخلق، ودعاهم آلي ذلك، والذي ظهر له يسمى وليا، وحاله، كرامة، ولا يجبر من ظهرت له هذه الحالة على ان يشتغل بالخلق ودعوتهم بل في قدرة الله ان لا يشغله بدعوتهم اما من أجل ان الشريعة طريقة  جديدة فلا يحتاج آلي دعوة أخرى ومن أجل ان الدعوة لها شروط أخرى لا تكون موجودة في هذا الولي فيجب ان يكون ايمانك صحيحا بأوليائه  وكرامة الأولياء .
وتعلم ان أول هذا الأمر له تعلق بالمجاهدة، وللاختبار اليه طريق، ولكن ليس من عزم سلك، ولا كل من سلك وصل، ولا كل من وصل وجد.. لكن كل شغل هو عزيز وأعز، كانت شرائطه  ووجوده أبر وأعز، وهذا هو أشرق درجات الآدميين، في مقام المعرفة، ومن طلبه بلا مجاهدة، ولا شيخ ممن قد سلك الطريق لا يتم ولا يوصل، ومن لم يساعده التوفيق، ولم يحكن له في الأول  بهذه السعادة، فلا يصل المقصود، ووجود درجات الإمامة  في العالم الظاهر، وفي جميع الأشغال الاختيارية حكمها كذلك.

الفصل الثالث عشر

في شرف القلب

 

قد علمت أنموذجا من شرف جوهر الآدميين المسمى  بالقلب، وهو طريق العلم، واعلم الان ان له ايضا من جهة القدرة شرفا، وذلك المعنى  من خاصية الملائكة، ولا يوجد ذلك في الحيوان الآخر، كما ان عالم الاجسام مسخر للملائكة باذن الله تعالى على  ما يرونه صوابا مع حاجة الخلق اليه فيثيرون الهوا  في زمن الربيع، ويصورون الحيوانات في الأرحام، والنبات في الأرض، ولكن جنس من هذه الأمور طائفة  من الملائكة مسخرة، ومملكة.. كذلك قلب الآدمي فانه من جنس جوهر الملائكة، وقد اعطي ايضا قدرة يسخر بها بعض اجسام العالم، والعالم المشخص المتعلق بالشخص يداه وبدنه مسخرة للقلب، وانه معلوم ان القلب ليس بالاصبع، والعلم والارادة ليس بالاصبع ايضا، فالقلب لا يتحرك بامر الاصبع بل على  العسكر، فاذا ظهرت صورة الغضب في القلب انفتح مسام البدن بالعروق من السبعة الأعضاء وهذا مثل المطر، واذا ظهرت  في القلب صورة الشهوة ظهر الريح وتحرك الى  جانب الشهوة، واذا تفكر في الطعام وأكله ماتت القوة التي  تحت اللسان الى  الخدمة وأراقت الماء لترطب الطعام كما يمكن اكله، وهذا ليس بمغطي، فان تصرف القلب في البدن ظاهر والبدن له مسخر ولكن يجب ان تعلم انه يجوز، ويمكن ان يكون بعض القلوب اشرف وأقوى وأشبه بجانب الملائكة  فتعطيه اجسام اخرى  خارجه عن بدنه فتفع هيبته على الأسد مثلا فيصير مطيعا وخاضعا ويعلق الهمة بمريض فيشفي ويطرح الوهم على صحيح فيمرض ويدير الفكر في حق شخص ليصل اليه فتظهر حركته من باطن ذلك الشخص وتعلق الهمة على نزول المطر فينزل هذا كله غير منكر بالبرهان العقلي ومعلوم بالتجربة، وايضا ما يسمى  من اصابة العين والسحر. فمن هذا الباب فانه من جملة تأثير نفس الآدمي في اجسام أخر، فان الشخص اذا نظر بهيمة حسنة ونظر اليها على  جهة الحسد فعلو همته في تلك البهيمة مع الحسد الداعي الى   النظر كذلك فان البهيمة تهلك في الوقت، كما روى في الخبر ان (العين لتدخل  الرجل القبر والجمل القدر)، واعلم ان ذلك كله من عجائب  قدرة القلب، وهذه الخاصية اذا ظهرت لشخص فان كان داعيا للخلق كانت معجزة ، وان لم يكن داعيا سميت كرامة، وان كان في شغل خير سمي ذلك الرجل وليا او نبيا، وان كان شرا سمي ساحرا، والسحر والكرامات والمعجزات كلها من خواص قدرة القلب الآدمي، وان كان  بينهم فروق كثيرة لا يحمل بيانها هذا الكتاب.

 

الفصل الرابع عشر

معرفة درجات النبوة

فالعاقل يعرف من هذه الجمل التي اسلفناها انه لم يكن له من حقيقة الخبر الا صورة وسماع، وان النبوة والولاية درجات شريفة من شرف قلب الآدمي، فتعلم ان خواصه ثلاث :
احدهما: ان ما ينكشف في النوم لعامة الخلق ينكشف له في اليقظة.
الثاني: ان عامة الخلق لا تؤثر انفسهم الا في ابدانهم ونفس النبي والولي تؤثر في الاجسام الخارجة عن بدنه على  طريق يكون صلاح الخلق فيه ولا يكون فسادهم.
الثالث : ان ما يحصل للعامة الخلق  من العلم بالتعلم يحصل له تلك العلوم ام اكثرها من غير تعلم، وتكون اصفى وأقوى   ويسمى ذلك العلم: اللدني، كما قال تعالى: (اتَيناهُ رحمةً منْ عِندِنا وعَلّمناهُ من لّدُنا عِلماً) [الكهف: 65] فكل من اجتمعت فيه هذه الثلاث الخواص كان من الأنبياء الكبار  او من الاولياء الاخيار، ومن حصل واحدة من هذه الثلاث، فقلما ينال هذه الدرجة، وفي كل واحدة من هذه الثلاث تفاوت عظيم فانه يكون لشخص ما، من كل واحدة، منها شيء قليل، وقد يكون لآخر شيء كثير منها، وكما ان نبينا (ص)، لما كان اجتماع هذه الثلاث الخواص باعيانها فيه، والله سبحانه لما أراد ان يظهر الطريق للخلق بظهور نبوته حتى   يعاينوه ويتعلموا منه طريق السعادة، اعطي لكل شخص من هذه الثلاث الخواص انموذجا: فالأنموذج الاول: ما ينكشف في النوم ومن خاصيته..
الثانية: الفراسة الصحيحة.
ومن الثالث: الخاطر المستقيم.
ولا يمكن ان يؤمن  الآدمي بشيء لا يكون له من جنسه شيء، فان كل ما لم يكن عنده منه أنموذج فلا يفهم صورته بحال، ولأجل هذا لا يعرف الله بحقيقة كماله الا الله.. وشرح هذا التحقيق طويل، وقد بيناه وكشفناه في كتاب: شرح اسماء الله تعالى  بالبرهان المضي، والمقصود الان ان نجوز ان يكون للانبياء والأولياء خواص من غير هذه الثلاث، ما ليس لنا منه خبر، اذ لم يكن لنا منه انموذج، كما قلت انه لا يعرف الله بكماله الا الله، فتقول والرسول لا يعرفه الا الرسول، او من كان فوقه بدرجة، فقرب الانبياء من الآدميين تعرفه الانبياء، اما نحن فلم نعرف غير هذا المقدار وانه لو لم يكن لنا نوم ويحكي لنا شخص ان رجلا قد وقع وليست  له حركه، ولا يبصر، ولا يسمع، ولا يتكلم، ويري ما يكون غدا، واذا كان يبصر ويسمع فلا يري ذلك فكنا لا نصدقه قط، والآدمي كل ما يراه لا يصدق به، ولهذا قال الحق سبحانه: (بلْ كَذّبوا بما لَم يُحيطُوا بِعِلمهِ ولمّا يأتيهِمْ تأويلُهُ) [يونس: 39] وقال: (وَ إذ لَمْ يَهْتدُوا بهِ فَسَيقُولُونَ هذا إفكٌ قديمٌ) [الاحقاف: 11]، ولذلك نتعجب ما يكون للأنبياء والأولياء من الصفات التي لا يكون لغيرهم منها خبر، وهم يجدون من تلك الأحوال اللذات، والأحوال الشريفة، فانك ترى شخصا ليس له ذوق الشعر لا يجد لذلك لذة ، ولا يكون للسماع عنده قدر، ولو أراد شخص ان يعلمه معنى ذلك لم يقدر عليه فانه فليس عنده من جنس ذلك خبر، وكذلك الأكمة لا يفهم معنى الالوان ولا لذة النظر، فاذا صح من قدرة الله ان يخلق بعض الادراكات لرؤية تلك الدرجة من النبوة ولا يكون عند منكريها خبر من ذلك.

الفصل الخامس عشر

العلم حجاب لهذا الطريق


قد علمت من هذه الجملة شرف جوهر الآدمي  من طريق الصوفية، ولاشك انك سمعت من الصوفية انهم يقولون: العلم حجاب لهذا الطريق فانكرت هذا القول، فاحذر ان تنكر هذا القول فانه حق، فان المحسوسات، وكل علم من طريق المحسوسات، اذا اشتغلت به، واستغرقت فيه، كان حجابا من هذا الوجه، ومثل القلوب في ذلك مثل حوض الماء، ومثل الحواس مثل خمسة انهار تصب في الحوض من خارج، فاذا اردت ان تخرج الماء الصافي من قعر الحوض حتى  يظهر ماء صافي من باطن الحوض، فما دام الحوض مشغولا بالماء الذي حصل فيه من خارج، لا يمكن ان يظهر من باطنه الماء، كذلك هذا العلم لا يحصل من باطن القلب ولا يظهر حتى  يخلا من جميع ما حصل فيه من خارج، اما العالم اذا خلا قلبه من العلم المتعلم  ولم يشغل قلبه بذلك، فلا يكون العلم الماضي حجاب، ويمكن ان يظهر له هذا الفتح، كما انه اذا أخلي نفسه من الخيالات والمحسوسات الماضية لا تكون حجابه، وانما سبب الحجاب مثل رجل تعلم اعتقاد اهل السنة بدلالتها، كما هو مدروك في الجدل والمناظرة واعطي كليته لذلك واعتقد انه لا علم وراء  هذا، وان خطر بباله شيء آخر فيقول هذا خلاف ذلك الذي سمعته، وكل ما كان خلافه، فهو باطل، فلا يمكن بحال ان يعرف هذا الرجل شيئا من حقائق  الامور والاعتقاد الذي يتعلمه العوام قالب الحقيقة، لا عين الحقيقة، وتمام المعرفة، ان تنكشف له الحقائق  من هذه القوالب، كما يخرج اللب من اللوز وغيره من القشر، وكل من تعلم طريق الجدل في نصره  الاعتقاد لا تنكشف له الحقيقة اذا ظن ان كل ذلك معه وتعلمه، فهذا الظن حجابه، ولما كان هذا الظن غالبا على  شخص تعلم شيئا فلا جرم كان أكثر هؤلاء القوم محجوبين عن هذه الدرجة واذا حصل له هذا الفتح وظهرت هذه المنزلة كان في غاية الكمال، وطريقة آمن وأصح، من رجل، ترسخ قدمه في العلم قدر بما تمضي عليه هذه، ويبقى من رباط خيال باطل شبهه يكون حجابا هنالك، والعالم من هذا آمن.
فاذا معنى العلم حجاب في ان تعلم، ولا تنكر اذا سمعته من رجل هو في حضرة المكاشفة  واصل اليها..
اما هؤلاء المطوفون غير المخلصين الموجودين في هذا الزمان الذي قد ظهروا فيه، لم يكن لهم هذا الحال قط، ولكن حفظوا عبارات معدودة من طامات الصوفية وشغلهم طول النهار ان يغسلوا ايديهم، وينظفوا أثوابهم، ومرقعة، وسجادة، وغير ذلك يذمون العلماء والعلم، أولئك اهل الغسل  الأخساء  شياطين الخلق، وأعداء الله ورسوله، فان عدو الله و رسوله يعادي العلم والعلماء، وحبيب الله ورسوله من دعا الى  العلم، فهذا المدبر اذا لم يكن صاحب حالة ولا حصل شيء من العلم، فمتى يجوز له هذا، ومثله مثل رجل يسمع ان الكيمياء اجود من الذهب وقد حصل له من الذهب ما لا نهاية له، فتوضع له الكنوز بين يديه ولا يضع يده فيها، ويقول مالي حاجة إلى  الذهب وما قدره، بل تحصيل معرفة الكيمياء فان هو الأصل ، ولا يأخذ شيئا من الذهب فيبقى حقيرا مدبرا مفلسا جائعا لا شيء معه، ومن علم، علم الكيمياء، وهو في علم الذهب زهاء  بهمته على  الخلق، فمثل المكاشفة للأنبياء والأولياء، مثل الكيمياء، ومثال علم العلماء، مثال علم الذهب، ولصاحب الكيمياء على  صاحب الذهب فضيلة، ولكن بقي هاهنا دقيقة اخرى وهو لو ان رجل معه الف دينار فضل، كما ان الكيمياء طالبها وحديثها كثير وحقيقتها لا تحصل في اليد الا في زمان طويل واكثر أقوام يذهبون في طلبها، ويرجع حاصل عملهم الى التدليس والقلب والزغل، فكذلك ايضا يكون مثل ذلك الصوفية أعزا  قليلون وما يكون لهم قليل أيضا، ونادر، ان يحصل الكمال، فينبغي ان تعلم بهذا ان كل من حصل له شيء من حال الصوفية وظهر له ذلك فلا يكون له فضل على كل عالم، فان اكثرهم تظهر  له من أوائل  الأمر الشيء وحينئذ يتراجعون عن ذلك ولا يصلون الى  تمامه، وبعضهم يغلب عليه السوداء ، وخيال لا حقيقة له، وهم يظنون ان ذلك شغل ، ومن كل عشرة تسعة كذلك ، وكما ان في النوم حقيقة واضغاث احلام، فكذلك في الخيال، بل انما يكون له الفضل على العلماء، اذا كان في هذه الحالة كاملا، فيكون كل علم له تعلق بالدين، حصل لهم بالتعليم ، وحصل له بلا تعلم، وهذا نادر عظيم.
فينبغي ان تكون مؤمنا باصل طريق التصوف، وبفضلهم، ولا تفسد اعتقادك من اجل مطوف هذا الزمان، و كل من ترى منهم يطعن في العلماء، فاعلم انه من قلة خاصيته يفعل ذلك..

الفصل السادس عشر

السعادة في معرفة الله


لعلك تقول بماذا اعلم ان سعادة الآدمي في معرفة الله تعالى..
فاعلم ذلك: بان تعلم ان السعادة كل شيء في ما فيه لذته وراحته وراحلة  القلب، انما هي ذلك، ولذة كل شيء، في ما يقتضي طبعه، ومقتضى  كل شيء لما خلق لأجله، كما ان لذة الشهوة نيلها الى مقصودها ولذة الغضب في الانتقام من الاعداء، ولذة العين في الصورة الجميلة، ولذة السمع في الاصوات الحسنة والالحان المتناسبة، كذلك لذة القلب في خاصيته التي لأجلها خلق، وذلك معرفة حقائق  الامور فان خاصية قلب الآدمي هذه، اما الشهوة والغضب وادراك المحسوسات بالحواس الخمس فموجود للبهائم ، ولاجل هذا ان الآدمي اذا لم يعلم الشيء في طبعه ما يتقاضاه الى التجنيس ليعلمه ويفرح بكل ما يعلمه وينجح  به ويفخر وان كان في شيء خسيس، مثل الشطرنج مثلا، ان قيل ان الرجال يعلم علم الشطرنج لا يعلم عشر خبره عن ذلك، بل يقدر عليه، ومن فرحه بعلم اللغة العربية يريد ان يفتخر الأكبر والاشرف تلذ اكثر من ذلك، فان الرجل يفرح بعلمه باسرار الوزير، فاذا علم اسرار الملك ونيته وتدبيره للمملكة كان ذلك اشد فرحا، ومن كان عالما بشكل السماء، ومقدارها، وعلم الهندسة، كان اشد فرحا ن عالم علم الشطرنج، فالرجل الذي علم كيف بحث الشطرنج حتى وضعها، كان أشد لذة من الشخص الذي يعلم كيف يحب ان يلعب بها وهكذا، كلما كان المعلوم اشرف كان العلم به أشرف ولذته اكثر، ولا موجود أشرف من عالم جميع الأشياء [ء]  بل كل العالم وجميع عجائب  العالم آثار صنعته، فلا جرم لا تكون  معرفة أشد من هذه المعرفة، ولا ألذ منها، ولا أطيب من نظارة حضرة الربوبية، ومقتضى  طبع القلب ذلك، اذ مقتضى  طبع كل شيء خاصيته التي لأجلها خلق، فان كان ثم قلب ليس فيه تقاضى هذه المعرفة، وقد بطل شوق اليها، وكان مثل بدن مريض قد بطل فيه تتقاضى الغذاء، اذ ربما كان الطين احب اليه من الخبز، وان لم يعالجه حتى يرجع الى طبعه، ولم تذهب منه هذه الشهوة الفاسدة، كان ردي البخت في الآخرة، وجميع الشهوات واللذات المحسوسات المتعلقة ببدن الآدمي تتضاعف بالموت، فان القلب لا يهلك بالموت، والمعرفة تبقى في موضعها، بل يصير صافيا فتتضاعف اللذات، فترتفع زحمة باقي الشهوات، وشرح هذا بتمامه نذكره في أصل المحبة في آخر هذا الكتاب .

الفصل السابع عشر

في معرفة جوهر القلب

في هذا القدر الذي أوردناه من أحوال جواهر الآدمي كفاية في مثل هذا الكتاب، فان أراد رجل زيادة فقد قلنا [ه] &nbrp;في كتاب عجائب  القلب ، وبهذين الكتابين يعرف الآدمي نفسه ايضا على التمام بل هذا كله بعض شرح عجائب القلب، وهذا أحد الأركان.

الركن الثاني عند الآدمي، بدنه وفي خلق البدن أيضا عجائب كثيرة، في كل عضو، من ظاهره وباطنه، معاني عجيبة، وفي كل واحد منها، حكم غريبة، وفي بدن الآدمي كذا ألفا من عصب وعروق وعظم، كل واحد على صفة اخرى، وكل واحد لأجل غرض أخر، وأنت بلا خبر من الجميع ومن ما تعرف هذا المقدار: ان اليد لأجل الأخذ، والرجل لأجل المشي، واللسان لاجل القول وأما العين فمن عشر طبقات مختلفات، حتى لو نقص واحدة من هذه العشرة اختل البصر، فلا يعلم ان كل واحدة من هذه الطبقات لماذا خلقت!! ولاي شيء تمس الحاجة اليها في النظر ومقدار العين ظاهر على ما هو عليه، وشرح علمه مذكور في مجلدات، وانت كنت لا تعلم ذلك فلا تعجب من ذلك، فانك لا تعلم لماذا خلقت  أحشاء البطن مثل الكبد والطحال والمرارة والكلية، وغير ذلك.. والكبد محل  الاطعمة المختلفة على صفة واحدة اذا وصلت اليه من المعدة وتجعله بلون الدم ليصير صالحا لان يكون صالحا لان يكون غذاء للسبعة الاعضاء، فاذا انطبخ  الدم بالكبد ترسمت منه فيه نقاته  وذلك السوء ، والطحال لاجله خلق كي تأخذ السودانية منه واذا خرج الدم من الكبد خفيفا رقيقا كان بلا قوام، فالكلية خلقت لأجل انها تأخذ تلك المائية حتى يكون ذا قوام، وكذلك تسقط  قوة دعوته وتلك الصفراء، وخلقت المرارة تجد بها، حتى يبقى الدم بلا صفرة ولا مائية ولا سوداء مع القوام، يذهب في العروق، فاذا وقعت  على المرارة آفة بقيت الصفراء، في الدم، فيحدث منه اليرقان والصفرة على الجسم وان طرأ على الطحال بقيت السوداء مع الدم، فتظهر العلل السوداوية، وان اصابت الكلية آفة بقيت المائية، فيحدث الاستسقاء، وهكذا كل جزء من الاجزاء الظاهرة والباطنة خلقت لاجل عمل فان بدن الآدمي مع كونه مختصر امثال لجميع العالم فان كل ما خلق في العالم فيه منها أنموذج، في العظام الغليظة امثال الجبال والعروق مثل الأودية والعرق مثل السماء، والحواس مثل النجوم، وتفصيل هذا ايضا يطول بل جميع اجناس المخلوقات فيه منها مثال، مثال الكلب والخنزير والذئب  والبهائم ، والجن، والملائكة  على  ما أسلفناه وشرحناه، وكل صنعة في العالم فيه منها أنموذج، فالقوة التي في المعدة مثل الطباخ فانه يهضم الطعام، والقوة التي تصفي الطعام وترسله صافية الى الجسد، ونقله الى الأمعاء مثل القصار، وذلك الذي يحيل الطعام الى لون الدم كالصباغ، وذلك الذي يحيل الدم أيضا  في الصدر لبنا، ويحيله منيا مثل ، وذلك الذي في كل جزء يجدب الصفراء من العروق، والكبد مثل الحلاب، وذلك في الكلية يجدب الماء الى نفسه من الكبد ويصبه في المثانة، مثل السقا، وذلك الذي يرمي النقل من خارج مثل الكناس، وذلك الذي يثير الصفراء والسوداء في داخل البدن مثل العيار المفسد، وذلك الذي يرفع الصفراء والعلل مثل الرئيس العادل، وشرح هذا يطول، ومقصوده ان تعلم كم من العوالم المختلفة في باطنك، كل واجد مشغول بشغل  وانت غافل وهم لا يغفلون لحظة عن خدمتك وانت لا تعلم ولا تأتي بشكر من جعلهم قائمين  في خدمتك، ولو ان رجلا ارسل غلامه يوما اليك ليخدمك لاشتغلت بشكره طول عمرك والذي خلق، لك الف خادم ووزير لا يغفلوا عن خدمتك لحظة واحدة، لا تأتي بشكره. ومعرفة تركيب البدن، ومعرفة اعضائه، يسمى علم التشريح، وهو علم عظيم الخلق عنه غافلون، وعنه معرضون، وكذلك الذي يقرونه انما يقرونه ليصيروا استاذين  في الطب، والطب عليه مختص، وان كانت الحاجة اليه ماسة فلا تعلق لطريق الدين به، اما رجل له نظر في الدين، فانما يقره  ليرى  عجائب  صنع الله تعالى، ويعرف كمال العالم فانه لا شيء اعجب في العالم من اختراع هذا الشخص من قطرة ماء، وذلك الذي يقدر على النشأة الآخرة بعد الموت الثاني، انه عالم محيط علمه بجميع الأشياء، فان مثل هذه العجائب  مع هذا الحكم الغريب لا يمكن ان تكون الا بكمال علم الثالث، اللطف والرحمة، والعناية بعبيده، فخلق لهم كل ما يحتاجون اليه ويضطرون اليه ويتزينون به، والذي بالضرورة، فالمضطر اليه مثل القلب والكبد والدماغ، والذي يتعلق الحاجة به وان لم تكن الضرورة اليه مثل اليد والرجل والعين واللسان، وما لا حاجة اليه ولا ضرورة فيه ولكن  فيه زيادة زينة، ويكون ذلك في الوجه، مثل سواد الشعر، وحمرة الشفة، واعوجاج الحاجب وغير ذلك.
وهذا اللطف والعناية لم يكن للآدمي فقط بل لكل زنبور حتى الزنبور والذباب اعطى كل واحد منهم جميع ما يحتاج اليه، فان النظر في تفصيل بدن الآدمي مفتاح معرفة الصفات الإلهية من هذا الوجه، وبهذا السبب شرف هذا العلم لا من أجل ان للطبيب اليه حاجة وكذلك غرائب  الشعر والتصانيف والصنائع  كلما علمتها اكثر زاد في قلبك عظمة الشاعر والصانع فكذلك عجائب  صنع الله هي مفتاح العلم بعظمة الله تعالى، فهذه شعبة من معرفة النفس لكن مختصرة بالاضافة الى القلب فان البدن كالمركب للقلب والقلب مثل الفارس والمركب لاجل الفارس لا الفارس لاجل المركب، وغرضنا بهذا ان نعرف انك لا تقدر ان تعلم نفسك على  التمام بهذه السهولة على  انه لا شيء أقرب اليك منك، وكل من لا يعرف نفسه ويدعي معرفة شيء آخر مثل مفلس لا يقدر ان يطعم الطعام يدعي انه يعطي الطعام لفقراء البلد وهذا قبيح ومحال.

الفصل الثامن عشر

جوهر القلب وعظمته

فاذا عرفت من هذه الجملة شرف القلب وعزته وعظمته وجوهريته فانك اعطيت هذا الجوهر العزيز وحجب بينك وبينه فاذا لم تطلبه وضيعته وغفلت عنه كان لك عقابا عظيما وخسرانا جسيما، فاجتهد في طلب قلبك واخرجه من مشغلة  فتوصل الى  كمال شرفه و عزه في ذلك العالم اظهر فترى  الفرح بلا غم والبقاء بلا فناء والقدرة بلا عجز، والمعرفة بلا شبهة، وجمال الحضرة بلا كدرة، أما في هذا العالم فقد علم شرفه وانه صالح لان يصل الى  ذلك العز والشرف الخفي غير انه ناقص فانه اسير الجوع والعطش والحر والبرد والمرض والوجع والغم والألم والغضب والشهوة، فكل ما له في راحة فهو ضرر آخرته وكل ما ينفعه فهو مقرون بالمرارة والتعب، والشخص انما شرف وعز بالعلم، او بالقدرة والإرادة، او بجمال الصورة، فان نظرت الى  علمه فلا ترى  أجهل منه، فانه اذا ضرب في جسمه عرق وكان فيه الهلاك او الجنون لا يعلم مما نشأ ولا يعلم علاجه في ماذا!! وقد يكون علاجه بين عينيه، يراه وهو لا يعلمه وان نظرت الى قوته وقدرته فاي شيء اعجز منه، اذ لا يقاوم ذبابة، ولو سلط عليه شوكة فقد يكون هلاكه منها، ولو لسعته زنبورة تركته بلا نوم ولا قرار، وان نظرت الى همته تراه يتغير ويضيق صدره بسبب دانق، واذا جاوز وقت اكله فلأجل لقمة تراه مدهوشا، واي شيء أخس من هذا؟ وان نظرت الى جمال صورته تراه مذبلة قد ألبس وجهها  بجلد، وان لم يغسل وجهه ظهرت عليه من القاذورات ما يشمئز  من نفسه، ويظهر من النتن وأمور شنيعة، واي شيء اشنع من هذا، ومما في بطنه مما هو جامع وخازن ومماذا جمل له  ويغسل القدرة بيده  كذا مرة!!
كان الشيخ ابو سعيد الخرازي رحمه الله يمشي مع رهط من اصحابه من الصوفية الى موضع كان يقتضوا  فيه موضع الطهارة، وكانت النجاسة على  الطريق فوقف وهربوا كلهم الى  موضع واحد، وسدوا افواههم من قبح النتن، فوقف الشيخ وقال: يا قوم تعلمون ما تقول لي هذه النجاسة! تقول: بالامس كنت في السوق يوزن علي ما في الأكياس حتى احصل في ايديهم فما صحبتهم اكثر من ليلة واحدة حتى صرت بهذه الصفة، فيجب لي ان اهرب منكم وتعربوا مني! وهكذا هو على الحقيقة فان الآدمي في هذا العالم في غاية النقصان والعجز وعدم الانسانية، واما نور شرفه فهو ان يكون غدا، اذا وضع كيمياء السعادة على جوهر قلبه انتقل من درجة البهائم  الى درجة الملائكة  وان صرف وجهه الى الدنيا وشهواتها فضل عليه الكلب والخنزير فانهم يصيرون ترابا ويستريحون من التعب ويبقى  هو في العذاب، فكما انه قد عرف شرف نفسه من هذا الوجه كان مفتاحا من مفاتيح معرفة الله سبحانه وتعالى، وهذا المقدار كاف في شرح معرفة النفس، فان مثل هذا الكتاب  لا يحمل اكثر من القول:
العنوان الثاني: (في معرفة الحق تعالى):
اعلم ان في كتب الأنبياء المتقدمين عليهم السلام معروف هذا اللفظ: يا انسان أعرف نفسك تعرف ربك.. وفي الآثار والاخبار معروف، فان من يعرف نفسه يعرف ربه، وهذه الكلمة دليل على ان نفس الآدمي مثل المرأة ، كل من ينظر فيها ينظر الحق، وكثير من الخلق ينظر في نفسه فلا يعرف الحق، فاذا لابد من معرفة ذلك الوجه الذي انظر في تلك المرآة معرفة للحق.
وهذا على درجتين، احداهما أغمض من الاخرى  ولا يحتمله اكثر الافهام، وشرح ما لا تفهمه العوام ليس بصواب..
اما الوجد الذي يمكن ان يفهمه كل احد فذلك ان الآدمي يعرف من ذاته وجود ذات الحق، ويعرف من صفاته صفات الحق، ومن تعرفه في مملكته، وهو بدنه، او اعضاءه  تعرف الحق في جملة العالم، وشرح هذا هوا نه لما عرف نفسه بالوجود، وعلم انه لم يكن قبل ذلك باعوام موجود، ولم يكن منه اسم، ولا علامة كما قال سبحانه وتعالى: (هلْ أتى عَلىَ الإنسانِ حينٌ من الدّهر لمْ يكُن شيئاً مذكوراً إنّا خلقْنا الإنسانَ من نُّطفةٍ أمشاجٍ نبتليهِ فَجَعلناهُ سميعاً بَصيراً) [الإنسان: 1،2] والقدر الذي يوصل الآدمي الى  خلقته لا يكون أكثر من وجوده اولا فطرة ما مدره  لا عقل، ولا سمع، ولا بصر، ولا رأس، ولا لسان، ولا يد، ولا رجل، ولا عروق، ولا عصب، ولا عظام، ولا لحم، ولا جلد، ماء أبيض، تملي  صفته، ثم هذه العجائب  ظهرت فيه، فلا يخلو اما ان يكون هو الذي أظهر نفسه او شيء آخر اظهره، وعلم بالضرورة في حالة الكمال، والنهاية، انه في درجة الاستقلال هو عاجز عن خلق شعيرة، فيعلم انه لما كان قطرة ماء كان أعجز وأنقص، فاذا يعلم ذلك بالضرورة، من وجود ذاته، ووجود ذات فاعل خالق، فاذا نظر عجائب  في بدنه من وجه الظاهر ومن وجه الباطن على ما تقدم شرحه، فيعلم ظهور قدرة خالقه على الكمال، وانه يقدر ان يخلق ما يريد كما يريد وانه اي قدرة تصير من قطرة ماء حقيرة مهينة مثل هذا الشخص مع الجمال والكمال مع عجائب وبدائع واذا نظر في غرائب  صفاته ومنافع اعضائه  وان واحد، لاي حكمة خلق!! من الاعضاء الظاهرة مثل اليد والرجل والعين واللسان والأسنان.. ومن الأعضاء الباطنة مثل الكبد والطحال والمرارة وغير ذلك، فيعلم علم خالقه وانه على نهاية الكمال، ومحيط بكل شيء، ويعلم ان مثل هذا العالم لا يجوز ان يعزب عنه شيء، فان عقل جميع العقلاء لو ضرب بعضهم ببعض وأعطوا اعمار طويلة وهم مشتغلون بالتفكر لم يقدروا على  ان يأتوا  بوجه اجود في الخلقة مما هو عليه، مثل ان يقدر صورة اخرى  غير ما وضع الانسان عليها، فان الاسنان المقدمة رؤوسها  حادة لتقطع الطعام والباقي رؤوس  عريضة  لتطحن الطعام، واللسان في ذلك مثل المجرفة التي للرحى ، ومثل الأسنان الذي يرم  الطعام اليها، والقوة التي تحت اللسان، مثل العجان يطرح الماء في وقت الحاجة بقدر ما يحتاج منه فيصب الماء ليرطب الطعام وينحدر في الحلق لئلا  يغص به، فجميع عقل العقلاء لا يقدرون على ان يتفكروا في شيء من الصور الاخرى  أكمل ولا أملح، وكذلك اليد فانها [تحوي]  خمسة أصابع، اربع منها في صفة، والإبهام ابعد منها، وأفضل في الطول، وانما ذل، ليتمكن ان يفعل لكل واحد منها فعلا وشغلا، ولكل واحد منها، ثلاث ، أنامل، والإبهام انملتان ظاهرتان، فاتخذ ذلك ليقتبض بها ما يشاء، ويتخذها مجرفة، واذا اراد ان يفتحها ويتخذ منها طبقا ويلطفها ويصغرها فتصير ملعقة وأشياء أخرى .
ولو ان عقل جميع العقلاء ارادوا التفكر في وجه آخر في موضع اليد والأصابع في صف واحد وثلاث  في جانب آخر، وهذه الخمس بست وأربع، وكل يتفكر فيه، يقال هو ناقص، واكمل ذلك كله ما خلقه الله تعالى  فعلم بهذا ان خالق هذا الشخص محيط، وعلى  كل شيء مطلع، وفي كل جزء من اجزاء عالم الآدمي حكم كثيرة، وايضا فكل من قرأ هذا العلم اكثر كان تعجبه من عظمة الله أكثر، واذا نظر الآدمي في حاجات نفسه اولها الأعضاء، ثم الى العظام واللباس، والسكر، وحاجة طعامه، الى  المطر والريح والغيم والبرد والحر والى الصنائع  الى  ان يقضي الامر بها الى صلاح ذلك، وحاجته الى هذه الآلات بالهداية والمعرفة وانه كيف يتحد، ثم ينظر حينئذ ان هذا كله مخلوق ومصنوع على  التمام والملاحة، ومن كل واحد منها يتخذ انواع لو لم يكن كذلك الشيء لما كانت تلك الانواع ولما خطر ببال احد شيء منها أعطي ما يحتاج اليه و ما يريده من غير طلب ولا علم بل كلها مهيئات  باللطف والرحمة، فتعلم من هاهنا صفته [حاجة]  جميع الأولياء، وذلك هو اللطف والعناية بجميع المخلوقات، كما قال تعالى: سبقت رحمتي غضبي، وكما قال رسول الله (ص): (شفقة الله على العبيد اكثر من شفقة الوالدة على ولدها الصغير).. فاذا قد علم بنظره الى وجود ذاته ووجود الحق تعالى في كثرة تفاضل اجزاء نفسه وأطرافه رأى  كما قدرة الحق، وفي عجائب  الحكم ومنافع اطراف نفسه رأى  جمال علم الحق في اجتماع ما كانت الحاجة اليه ماسة والضرورة داعية والملاحة، فتجدها كانها مخلوقة معه فيرى  لطف [الله] ورحمته.
فاذا بهذا الوصف قد صارت معرفة النفس، مفتاح معرفة الحق .

الفصل التاسع عشر

صفات الحق من صفات النفس


فكما انه قد عرف صفات الحق من صفات نفسه، وعلم ذات الحق من ذاته فيعلم ايضا تقديسها ومعنى البد [ء]  ليس التنزيه في الحق، انه مطهر من كل ما يدخل في الوهم والخيال، ومنزه من اضافة الى  مكان، وان كان ليس موضع مجال من تصرفه والآدمي انموذج هذا يراه من نفسه، فان حقيقة روحه الذي منزه مما يدخل في الوهم والخيال، فاننا قلنا لا مقدار له ولا كمية، ولا يقبل القسمة، واذا كان كذلك، فلا يكون له لون، وكل ما لا يكون له لون ولا مقدار فلا يدخل في الخيال بحال من الاحوال فانه انما يدخل في الخيال بحال من الاحوال فانه انما يدخل في الخيال شيء قدر رآه البصر او شيء من جنسه وليس في ولاية البصر والخيال غير الاشكال والالوان ما يراه من تقاضي الطبع، اذ ذلك الشي كيف هو!! فمعناه ان ذلك الشيء ما لونه!! وعلى  اي شكل هو!! كبير او صغير!! فشيء ليس بهذه الصفات طريق فسؤال  الكيف في باطل!! فان أردت ان تعلم انه يجوز ان يكون شيء لا طريق للكيفية اليه، فانظر الى  حقيقة نفسك، فان تلك الحقيقة  التي هي محل المعرفة لا تقبل القسمة، وليس للمقدار ولا للكيفية ولا للكمية اليها طريق، فان سال سائل ان الروح كيف هو!! فجوابه ان يقال لا طريق للكيفية اليه، فاذا عرفت نفسك بهذه الصفة فاعلم الحق تعالى  بهذا التقديس أولى ، والخلق يتعجبون من موجود يكون بلا كيفية ولا كمية، وهم كذلك، وهم لا يعرفون انفسهم، بل الآدمي لو طلب في بدنه ألف شيء بلا كيف لزاد، فانه يرى  في نفسه الغضب والعشق، والآلام واللذة، ولو طلب الكيفية والكمية لذلك، لم يقدر عليها، فان هذه الأشياء، لا شكل لها، ولا لون، ولا طريق الى  هذا السؤال  البتة، بل ان رجلا طلب حقيقة الصوت، او حقيقة الشم، او حقيقة المطعم، انها كيف، يعجز عن ذلك، وسبب هذا ان الكيفية والكمية يتقاضاهما الخيال، فانه الحاصل من خاصية البصر، فحينئذ يطلب من كل شيء نصيب اليه، والذي في ولاية السمع، مثل الصوت مثلا، فليس للبصر فيه نصيب بل كلية الكمية والكيفية محال، فان الصوت، منزه عن نصيب البصر، كما ان الشكل واللون منزه عن نصيب السمع فكذلك خاصية القلب، والذي يدرك ويعلم، وبالعقل فكذلك منزه عن نصيب جميع الحواس، والكمية والكيفية انما يكون في المحسوسات، ولهذا تحقيق وغور شرحناه في كتاب (المعقولات)  فيكفينا هذا القدر في هذا الكتاب، والمقصود ان الآدمي يمكن ان يعلم من نفسه انه بلا كيفية ولا كمية وان الحق لا كيفية ولا كمية، ويعلم انه موجود، كما ان الروح موجود، وملك البدن، وكل ما في البدن، ماله كيفية ولا كمية، [و]  من ماله كيفية ولا كمية فكله مملكة، فالحق تعالى  بلا كيفية ولا كمية، وكل ماله كيفية ولا كميه مثل المحسوسات فكلها مملكته.. النوع الآخر في التنزيه: وهو أنك لا تضيفه الى  موضع، والروح فلا يمكن اضافتها الى  شيء من الاعضاء، فانه لا يمكن ان يقال في اليد ولا في الرجل ولا في الرأس  ولا في موضع آخر، بل جميع اعضاء البدن، تقبل القسمة، وهو لا يقبل القسمة، وما لا يقبل في ما يقبل القسمة محال ان يحل فيه، فانه يصير ايضا قابلا للقسمة، فكما انه لا يقبل الاضافة الى  شيء من الاعضاء فلا شيء من الاعضاء خال من تصرفه وتحت امره وهو ملك الجميع، ما ان جميع العالم في حضرة ملك العالم، وهو منزه عن ان يضاف  موضع خاص، وتمام هذا النوع من التقديس انما يظهر باظهار خاصية الروح وسرها وليس في ذلك رخصة في شرحه عند من لا يفهمه، ويظهر في تمام ذلك معنى  قوله (ص): (ان الله خلق آدم على  صورته) وقيل على  صورة الرحمن جل وعلا.

الفصل العشرون

علم الحق وتنزيهه


فاذا علم ذات الحق، وعلم أيضا تنزيهه عن اضافته الى  مكان، ومفتاح ذلك كله نفس الآدمي، فهاهنا أيضا باب آخر يحتاج الى  معرفته، وذلك معرفة انفاذ في معرفته كيف هي، وعلى  اي وجه يكون، ومن يأمر  من الملائكة  ومن يأتمر ويقضي في الأمر، وتحريك السماء، والنجوم، وارتباط أمور أهل الأرض بالسماوات، والحق له على  السموات بمفاتيح الارزاق، وكيفية هذا، وكيف هي، وهذا باب عظيم في معرفة الحق تعالى  وتسمى هذه المعرفة الافعال، ومفتاح هذا معرفة النفس، وكيف انت تعرف ملك نفسك في مملكتك، كيف تمضيه، فكيف تريد ان تعرف ملك العالم؟ أولا اعرف واحدا من أفعالك، مثلا الكتابة، فاذا أردت ان تكتب على الكاغد : بسم الله الرحمن الرحيم، فاول ما يظهر فيك رغبة وارادة ثم تظهر في قلبك حركة واضطراب، اعني هذا القلب الطاهر، الذي هو لحم في الجانب الأيسر [من الصدر]  ويتحرك من هذا القلب جسم لطيف يصعد الى  الدماغ، وهذا الجسم اللطيف تسميه الاطباء روحا، فانه كمال قيمة الحسن والحركة، وهذا روح آخر للبهائم  مثله، وللموت اليه طريق، وانما الروح الآخر الذي سميناه القلب لا يكون للبهائم  ولا يموت قط، فانه محل لمعرفة الله تعالى، فاذا وصل هذا الروح الى   الدماغ وحصلت صورة بسم الله الرحمن الرحيم في خزانة اول الدماغ، موضع قوة الخيال، وظهر ذلك، فيتعلق اثر ذلك بالاعصاب التي منشأها من الدماغ، فتصل بجملة الاعضاء، فيبلغ رؤوس  الاصابع كالخيوط، ويظهر ذلك على  ساعد من كان نحيف البدن، ويمكن ان يشاهد، فتتحرك تلك الاعصاب، فبحركتها تتحرك  رؤوس  الاصابع، وبتحريك رؤوس  الاصابع يتحرك القلم، والقلم يحرك الحرف، فتظهر من ذلك صورة بسم الله الرحمن الرحيم، على  الكاغد على  ما في وفق خزانة الخيال بمعاونة الحواس خصوصا العين من جملة البدن فان يحتاج اليه في الكتابة.

وكما ان أول الامور رغبة ظهرت فيك، فان أول الأمور كلها صفة من صفات الله تعالى  تسمى الارادة.

وكما ان اول الارادة تلك الرغبة ظهرت في قلبك ثم بواسطة  ذلك ووصل الى  موضع آخر، فأول اثر ارادة  الحق تعالى  ظهر على  العرش، ثم وصل الى  الباقي وكما ان جسما لطيفا مثل البخار من عروق القلب أوصل هذا الأثر الى  الدماغ، وهذا الجسم يقال له الروح وهو جوهر لطيف، فالحق اوصل ذلك الاثر من العرش الى  الكرسي بواسطة جوهر، وذلك الجوهر يسمى ملكا، ويسمى  روح القدس. وكما ان آثار ذلك يصل من القلب الى  الدماغ والدماغ مع القلب في حكم الولاية والتصرف، فالاثر الاول من عرش الله تعالى  واصل الى  الكرسي، وكما ان صورة بسم الله الرحمن الرحيم، الذي هو مرادك، ويكون من فعلك، تظهر في خزانة الاول من الدماغ ويظهر الفعل على  وفق ذلك، فكل ما في العالم بتمامه ينبغي ان يكون نقشه في اللوح المحفوظ، وكما ان القوة التي في الدماغ المحركة لجميع الاعصاب تحرك اعصاب اليد والاصابع والقلم، فكذلك الجواهر اللطيفة الموكلة بالعرش والكرسي تحرك السماوات  والكواكب، وكما ان قوة الدماغ بالروابط والأوتار، والاعصاب تحرك الاصابع، فالجواهر اللطيفة المسماة بالملكية بواسطة الكواكب وروابط ساعاتها بعالم السفلي  تحرك طبائع  امهات العالم السفلي الذي يسمى  اربع طبائع : الحرارة والرطوبة والبرودة، واليبوسة، وكما ان القلم يجمع المداد ويفرقه، ليظهر صورة بسم الله الرحمن الرحيم، والحرارة والبرودة والماء والتراب وأمهات هذه المركبات محركة، وكما ان الكاغد  يقبل المداد اذا فرق عليه او جمع، فكذلك رطوبة هذه المركبات قابلة للاشكال، وكما انها تصير حافظة للاشكال، فكذلك اليبوسة اذ لم تكن الرطوبة لما قبلت الأشكال، ولو لم تكن اليبوسة لما انحفظت الأشكال من الكتاب بعون الله وحسن توفيقه، والحمد لله رب العالمين وصلى  الله على  سيدنا محمد وعلى  آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين.

تم

No comments:

Post a Comment